أخبار اليوم

السبت، 26 ديسمبر 2009

جذور التطرف الإسلامي

أحيانا كثيرة يعترينا الشك تجاه وجودنا، ديننا، إلهنا، و عندما نصارح أحدا بما يخالجنا لا نضمن إلى أي مدى من الممكن أن يصل رد فعله. لقد تعودنا في مجتمعاتنا الإسلامية أن نرفض الشك و نحاكمه، بدعوى أنه لا يستقيم و الإيمان الحقيقي، فالحقائق يجب أن تقبل كما هي، و عندما نطالع القرآن الكريم نعثر على النقيض من ذلك، حيث أنه جعل الشك مرحلة مهمة تقود إلى الإيمان.

إن ابراهيم لم يكن ليؤمن لولا ذلك الشك الذي داخله تجاه معبودات قبيلته، و نجده و هو قمة إيمانه يرواده الشك، فيطلب اثباتا يطمئن نفسه، كما ورد في الآية 260 من سورة البقرة "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ".

و لم يكن ابراهيم هو الوحيد بل نجد أن موسى أيضا قد راوده الشك عندما خاطبه الله عز و جل، و احتاج لدلائل قوية و يقينية يؤمن بأنه رسوله إلى بني اسرائيل، و هذا ما جاء في سورة طه في الآيات من 17 إلى 23 " وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى،قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى،قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى،فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى،قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى،وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى،لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى".

و إذا ما نحن تأملنا في السيرة النبوية نجد أن محمدا (ص) قد شك بحقيقة جبريل معتقدا أنه شيطان، و لولا خديجة و ورقة بن نوفل لما سكن شكه، لقد احتاج لدليل قوي يرسخ إيمانه، و لم تكن هذه هي اللحظة الوحيدة التي خالج فيها الشك رسول الله (ص)، بل نجده بعد وفاة ورقة بن نوفل و فتور الوحي لفترة من الزمن قد أصابه حزن و شك، حتى أنه جاء في إحدى الروايات المذكورة في صحيح البخاري أنه أوشك أن ينتحر حيث ورد في الصحيحين "وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزنا غدا منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدى له جبريل، فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك".

من خلال ما سبق فإن الوعي الإيماني في الإسلام لا يتحقق دون شك، و هذا الأخير يعني فيما يعنيه القدرة على مساءلة الأحداث و الأشخاص و النصوص، إننا بهذا الشك لا نرتكب جرما أو محرما، بل على العكس من ذلك نكرر تجربة إيمانية يقينية، قام بها إبراهيم و موسى و محمد عليهم السلام أجمعين، فلماذا تحاكم مجتمعاتنا الإسلامية الشك و تحرمه؟.

قد يقول قائل أثناء محاولة الإجابة على هذا السؤال: أن مجتمعاتنا بطبيعتها اطلاقية، منغلقة، غير أننا نقول العكس من ذلك، حيث أن مجتمعاتنا تحرم الشك لأنها و بكل بساطة تشك، و لا تجد إجابات لشكوكها لذا تغلف لاوعيها المتسائل و الشاك أبدا، بوعي اطلاقي يقيني، يجنبها أن تواجه أسئلتها الحقيقية.

إن مجتمعاتنا الإسلامية تعاني من أزمة شك وجودية يمكن لنا أن نرجعها إلى ما يعرف بالفتنة الكبرى، و التي إذا كانت قد أثرت على الوضع الفكري و السياسي بشكل كبير، فإنها تأثيرها على البنية النفسية لا يقل أهمية –إن لم يكن يزيد- حيث أن مشهد كبار الصحابة و قد حملوا السيف على بعضهم، جعل المسمين يواجهون صدمة سقوط النموذج، لذا كان من الطبيعي أن تدخل المجتمعات الإسلامية في دوامة الشك التي أفرزت تيارات سياسية و فكرية ذهبت في شكها و تساؤلاتها كل مذهب.

لقد كان الشك هنا سلاحا ذو حدين فمن جهة ساهم في المزيد من التمزق على المستوى السياسي و المذهبي، و من جهة أخرى ساهم في تحريك عجلة الفكر الإسلامي، حيث انبثقت نتيجة له تيارات فكرية عدة، ساهمت في تشكيل الفكر الإسلامي، و في وضع الكل موضع شك و تساؤل، و هو ما أدى إلى ضيق في مساحة المقدس، و الذي بدوره سيؤدي إلى ميلاد علوم الفقه و التاريخ و التفسير... الخ.

لم تكن الفتنة الكبرى هي الوحيدة التي ولدت النزعة الشكية بل ثمة عامل آخر لا يقل أهمية، و نقصد هنا ذلك التلاقح الذي حدث إبان توسع الدولة الإسلامية مع أمم و حضارات لها تقاليد راسخة في الجدال المنطقي و العقلي، و الذي فرض على المسلمين الخروج من ذلك الإسلام البسيط إلى مواجهة أسئلة أكثر صعوبة و عقلانية، طرحتها الأفكار الغنوصية و المانوية و الفلسفة اليونانية...الخ. و بالتأكيد أن مواجهة هذا الأمر لم تكن لتتم دون صدمة شكية تحرك توابثا عديدة عن أماكنها، و تجعل البحث عن أجوبة للأسئلة المتراكمة ضرورة وجودية.

كانت النزعة الشكية إذن هي الطابع المميز لوعي المجتمعات الإسلامية، و التي أدت إلى ميلاد المعرفة العلمية و العقلية داخلها، من خلال علاقة ثلاثية جمعت بين "المقدس، الشك، المعرفة"، ذلك أنه بازدياد النزعة الشكية تتضاءل مساحة المقدس، و تتطور المعرفة العلمية. غير أن هذا الأمر لن يدوم طويلا، حيث أنه و مع بداية عصر الانحطاط الإسلامي (القرنين 5و6هـ/11و12م) سيدرك ذلك التحالف المكون من الحكام و بعض المرتزقة من رجال الدين خطورة المعرفة العقلية التي تهدد كل مصالحهم و امتيازاتهم، لارتباطها –المعرفة- بالشك الذي يجعل الكل موضع تساؤل، و يبحث خلف أقنعة الشرعية التي يستقي منها الحكام و الفقهاء شرعيتهم و وجودهم، من هنا كانت المعركة إذن وجودية، فما هي الأسلحة التي سيلجأ إليها هذا التحالف لتدمير النزعة الشكية في المجتمعات الاسلامية؟.

إن الشك لا يقطع إلا باليقين، انطلاقا من هذه القاعدة سيعمل التحالف السابق الذكر على الإعلاء من شأن المقدس و زيادة مساحته، حيث أوليت عناية خاصة لحركة ترجمة الصحابة –سبق و أن أشرنا إلى بعض الأهداف الأخرى لهذه الحركة في مقالنا المنشور بمنتدى الأحداث 27/11/08 تحت عنوان "الآخر في الدولة الإسلامية: جدلية القرب و النبذ"-و رسمت صورة مثالية لهم ارتفعت بهم إلى درجة التقديس، و لتجاوز ما طبع الفتنة الكبرى من خلافات بين كبار الصحابة، فقد سن الفقهاء قاعدة تقول بوجوب السكوت عنها، و للتنصل أكثر بشكل "مشرعن تاريخيا" حملوا مسؤولية الفتنة الكبرى بشكل كامل لعبد الله بن سبأ، ملغين بذلك أي مسؤولية لباقي الصحابة.

و يجب أن نشير إلى أن اختيار هذا الرجل –الذي شكك كثير من الباحثين في حقيقة وجوده- لم يكن أبدا اعتباطيا فهو يهودي أسلم أو ادعى إسلامه، و هو الأمر الذي يجعل الآخر هو سبب الشقاء و الفتنة، و هكذا تصبح الشخصية الإسلامية مقدسة، مطهرة من الآثام، و مكمن الشر يأتي من الآخر دائما الذي يحرك المؤامرات و الدسائس و الفتن التي يسقط فيها عن حسن نية المسلمون، و هذا الأمر هو الذي يعزز حالة الانغلاق و التطرف أكثر فأكثر.

لكن في اعتقادنا الشخصي أنه و رغم نجاح هذه الخطة في القضاء على النزعة الشكية بشكل يكاد يكون كاملا، إلا أنه و نظرا لكونه –الشك- عنصرا ملازما للطبيعة البشرية سيلجأ إلى اللاوعي و يغلف نفسه بيقين مطلق، لذا فما نراه اليوم من أصولية و تطرف داخل المجتمعات الإسلامية، و رفض للشك و للآخر ترجع في الواقع إلى نزعة شكية تضرب في أعماق لاوعي المجتمعات الإسلامية، و تعبر عن نفسها بأشكال مموهة، و مغلفة. و انطلاقا من هذا يبقى الأسلوب الأمثل مواجهة التطرف هو الكشف عن جذوره اللاواعية، و تمثلاته المزيفة و المموهة.

يوسف المساتي

ليست هناك تعليقات: