أخبار اليوم

السبت، 26 ديسمبر 2009

فتح مكة و الفصل بين السلطتين

شكل فتح مكة إحدى اللحظات المهمة في التاريخ الإسلامي، و مرد ذلك إلى المكانة المتميزة التي كانت تحضى بها مكة عند عرب شبه الجزيرة على جميع المستويات، و لن نخوض كثيرا في استعراض دلالات هذا الحدث و لكننا سنتوقف عند الخطوة التي تلت الفتح، و نقصد هنا بالأساس عودة الرسول (ص) إلى المدينة، لنطرح السؤال التالي: لماذا لم يتخذ الرسول (ص) مكة عاصمة له عوضا عن المدينة برغم مكانتها لدى المسلمين عامة و لديه بصفة خاصة؟.في اعتقادنا الشخصي أن الأمر ينطوي على دلالات تتجاوز بكثير تلك التفسيرات السطحية التي أعطيت للحدث، لذا سنحاول اليوم إبراز بعض من تلك الدلالات.

نعتقد أنه و قبل أن نتساءل حول سبب عودة الرسول (ص) إلى المدينة بعد فتح مكة، لابد لنا من طرح سؤال أساسي سيكون بمثابة المفتاح للجواب،- و إن بدا للبعض أن لا علاقة تربطه بالسؤال الأساسي-و هو: لماذا اختار الرسول (ص) أن يغير اسم "يثرب" التي استقر بها إلى "المدينة"؟. لا بد من استحضار ثلاث معطيات رئيسية للإجابة على هذا السؤال.

أولا: عندما نبحث عن دلالات "المدينة" لغويا نجد في لسان العرب أن المدينة هي كل أرض بني بها حصن، و من المعلوم أن الحصن يحمل دلالة عسكرية و سياسية كبيرة، فهو رمز لمنعة الدولة و سيادتها، و بالتالي، فإن تغيير الاسم من يثرب إلى المدينة كان يعني إعلانا على التحول نحو إقامة الدولة السياسية و الإدارية.

ثانيا: أن المجتمع العربي آنذاك كان يغلب عليه الطابع القبلي و من المعلوم أن القبيلة تجمع بشري تربطه محددات معينة (القرابة، المصاهرة، العادات...)، و بالتالي، فمهما كان حجم القبيلة كبيرا فإنها تظل مجتمعا منغلقا و محدودا، في حين أن المدينة تجمع بشري بأنماط علاقات مختلفة و هي مهما كانت صغيرة تظل تجمعا مفتوحا مقارنة بالقبيلة، و تنظمها قوانين تراعي مصلحة كافة الشرائح المتواجدة بها، و هو الأمر الذي انطبق على يثرب بشكل نسبي، حيث شكلت وسطا مفتوحا (الأوس، الخزرج، اليهود، ثم المسلمون في مرحلة لاحقة)، لكن –و هذا أمر مهم- لم يكن أبدا منسجما، حيث كان مفتقدا لسلطة تنظم العلاقات بين أفراده، و هو ما تمثله الصراعات التي كانت تحتدم بين الأوس و الخزرج، و التي كانت ترجع في أغلبها إلى صراعهم على السيادة، في ظل غياب سلطة – أو قانون- منظمة للعلاقات فيما بينهم.

ثالثا: عندما سيدخل الرسول (ص) إلى يثرب سيضع "صحيفة" يمكن القول عنها أنها شكلت دستورا منظما للعلاقات بين أفرادها، و سيتحول اسمها إلى "المدينة"، لأنها أصبحت مكتسبة لكل صفات المدينة. و هنا سنتجاوز عن تلك النظرة التبسيطية التي ترى أن اعتناق الإسلام كان هو العامل الموحد بين الأوس و الخزرج، بل نرى أن السبب الأساسي يعود إلى وجود سلطة و قانون نظم العلاقات داخل المدينة.

من هنا نخلص إلى أن ذلك التحول الذي تم على المستوى اللغوي كان يعني الانتقال من نظام سياسي قائم على أساس قبلي إلى نظام آخر يقوم على سلطة منظمة للعلاقات في إطار تعددي (أوس و خزرج، يهود، مهاجرين...)، و إذا كان هذا المفهوم لم يتبلور بسبب التحولات التي كانت تعرفها مجريات الأحداث و التي كان للنعرات القبلية دور بارز فيها، فإنه مما لاشك فيه أن الرسول (ص) سيبعث بإشارات أخرى في هذا الصدد.

من بين أهم هذه الإشارات كان رفض الرسول (ص) الانتقال إلى مكة بعد فتحها،و باستحضارنا لمكانتها الدينية سواء لديه أو للمسلمين أو لباقي عرب شبه الجزيرة، أو استحضارنا ما سبق و طرحناه من دلالات التحول اللغوي من يثرب إلى المدينة، يبدو لنا أن هذا الرفض كان يعني إصرارا من طرف الرسول (ص) على الفصل بين السلطتين الدينية و السياسية، أو نق بمعنى أصح الفصل بين مركز الدولة الدينية (مكة) و مركزها السياسي (المدينة)، فعندما كانت تأتي وفود القبائل العربية لتبايع محمد (ص) فإن ذلك كان يتم في المدينة، لتدير –الوفود- بعد ذك وجهها صوب القبلة لأداء فرائض الحج أو الصلاة، و في حجة الوداع سيخرج الرسول (ص) من عاصمته السياسية ليؤدي فريضة الحج في مكة –قبلة المسلمين في كل صلاة- ثم سيعود إلى المدينة.

و هكذا يمكننا القول أن الفصل بين السلطتين الدينية و السياسية كان واحدا من أهم ركائز الدولة الناشئة في المدينة، و الشواهد و الأدلة التي تؤيد وجهة نظرنا كثيرة و مصادرها متعددة، إضافة إلى هذا فإنه ثمة ركائز أخرى لدولة المدينة، و ثمة دلالات أخرى يمكن استنباطها من عودة الرسول إلى المدينة بعد فتح مكة، و هي التي سنخصص لها مساهمات قادمة.

يـوسـف الـمـسـاتــي

ليست هناك تعليقات: